تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 27 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 27

27 : تفسير الصفحة رقم 27 من القرآن الكريم

** لّيْسَ الْبِرّ أَن تُوَلّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـَكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِيّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىَ حُبّهِ ذَوِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّآئِلِينَ وَفِي الرّقَابِ وَأَقَامَ الصّلاةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولَـَئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ
اشتملت هذه الاَية على جمل عظيمة وقواعد عميمة, وعقيدة مستقيمة, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبيد بن هشام الحلبي, حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عامر بن شفي, عن عبد الكريم, عن مجاهد, عن أبي ذر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان ؟ فتلا عليه {ليس البر أن تولوا وجوهكم} إلى آخر الاَية, قال: ثم سأله أيضاً, فتلاها عليه, ثم سأله فقال: «إذا عملت حسنة أحبها قلبك, وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك» وهذا منقطع, فإن مجاهداً لم يدرك أبا ذر, فإنه مات قديماً, وقال المسعودي: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن قال: جاء رجل إلى أبي ذر, فقال: ما الإيمان ؟ فقرأ عليه هذه الاَية {ليس البر أن تولوا وجوهكم} حتى فرغ منها, فقال الرجل: ليس عن البر سألتك, فقال أبو ذر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بيده «المؤمن إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها, وإذا علم سيئة أحزنته وخاف عقابها» ورواه ابن مردويه,. وهذا أيضا منقطع,والله أعلم.
وأما الكلام على تفسير هذه الاَية, فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولاً بالتوجه إلى بيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة, شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين, فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل, وامتثال أوامره, والتوجه حيثما وجّه واتباع ما شرع, فهذا هو البر والتقوي والإيمان الكامل, وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه, ولهذا قال {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الاَخر} الاَية, كما قال في الأضاحي والهدايا {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الاَية: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا, فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود, فأمر الله بالفرائض والعمل بها, وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك, وقال أبو العالية: كانت اليهود تقبل قبل المغرب, وكانت النصارى تقبل قبل المشرق, فقال الله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل, وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله¹ وقال مجاهد ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عز وجل, وقال الضحاك ولكن البر والتقوىَ أن تؤدوا الفرائض على وجوههاو وقال الثوري: {ولكن البر من آمن بالله} الاَية قال: هذه أنواع البر كلها, وصدق رحمه الله, فإن من اتصف بهذه الاَية, فقد دخل في عرى الإسلام كلها, وأخذ بمجامع الخير كله, وهو الإيمان بالله وأنه لا إله إلا هو, وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله (والكتاب) وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء, حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير, واشتمل على كل سعادة في الدنيا والاَخرة ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله, وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين, وقوله {وآتى المال على حبه} أي أخرجه وهو محب له راغب فيه, نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف, كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح, تأمل الغنى وتخشى الفقر» وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة والثوري عن منصور, عن زبيد, عن مرة, عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «{وآتى المال على حبه} أن تعطيه وأنت صحيح شحيح, تأمل العيش وتخشى الفقر» ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, (قلت) وقد رواه وكيع عن الأعمش, وسفيان عن زبيد, عن مرة, عن ابن مسعود موقوفاً, وهو أصح, والله أعلم, وقال تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكور} وقال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وقوله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} نمط آخر أرفع من هذا, وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له وقوله: {ذوي القربى} وهم قرابات الرجل وهم أولى من أعطي من الصدقة كما ثبت في الحديث «الصدقة على المساكين صدقة, وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة, فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك» وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز {واليتامى} هم الذين لا كاسب لهم, وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب, وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن جويبر, عن الضحاك عن النزال بن سبرة, عن علي, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتم بعد حلم» {والمساكين} وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم, فيعطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم, وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان, ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه», {وابن السبيل} وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطىَ ما يوصله إلى بلده, وكذا الذي يريد سفراً في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه, ويدخل في ذلك الضيف, كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين, وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو جعفر الباقر والحسن وقتادة والضحاك والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان {والسائلين} وهم الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات, كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا: حدثنا سفيان عن مصعب بن محمد, عن يعلي بن أبي يحيى, عن فاطمة بنت الحسين, عن أبيها ـ قال عبد الرحمن حسين بن علي ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «للسائل حق وإن جاء على فرس» رواه أبو داود {وفي الرقاب} وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم, وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف في آية الصدقات من براءة إن شاء الله تعالى, وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا يحيى بن عبد الحميد, حدثنا شريك عن أبي حمزة عن الشعبي, حدثتني فاطمة بنت قيس, أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة ؟ قالت: فتلا علي {وآتى المال على حبه} ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن إياس ويحيى بن عبد الحميد كلاهما عن شريك عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «في المال حق سوى الزكاة» ثم قرأ {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ـ إلى قوله ـ وفي الرقاب} وأخرجه ابن ماجه والترمذي, وضعف ابا حمزة ميموناً الأعور, وقد رواه سيار وإسماعيل بن سالم عن الشعبي, وقوله {وأقام الصلاة وآتى الزكاة} أي وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي, وقوله: {وآتى الزكاة} يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة كقوله: {قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساه} وقول موسى لفرعون {هل لك إلى أن تزكىّ وأهديك إلى ربك فتخشى} وقوله تعالى: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال, كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان, ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين, إنما هو التطوع والبر والصلة, ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس إن في المال حقاً سوى الزكاة, والله أعلم.
وقوله: {والموفون بعهدهم إذا عاهدو}, كقوله: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} وعكس هذه الصفة النفاق كما صح في الحديث «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا ائتمن خان» وفي الحديث الاَخر: «وإذا حدث كذب, وإذا عاهد غدر,وإذا خاصم فجر» وقوله: {والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس} أي في حال الفقر وهو البأساء, وفي حال المرض والأسقام وهو الضراء {وحين البأس} اي في حال القتال والتقاء الأعداءو قاله ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومرة الهمداني ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وأبو مالك والضحاك وغيرهم, وإنما نصب {الصابرين} على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته والله أعلم, وهو المستعان وعليه التكلان, وقوله {أولئك الذين صدقو}, أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذا الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم, لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال, فهؤلاء هم الذين صدقوا {وأولئك هم المتقون} لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات.

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاُنثَىَ بِالاُنْثَىَ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مّن رّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَأُولِي الألْبَابِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ
يقول تعالى: كتب عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون, حركم بحركم, وعبدكم بعبدكم, وأنثاكم بأنثاكم, ولا تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدي من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم, وسبب ذلك قريظة والنضير, كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم, فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به, بل يفادي بمائة وسق من التمر, وإذا قتل القرظي النضري قتل, وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر ضعف دية قريظة, فأمر الله بالعدل في القصاص, ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين المخالفين لأحكام الله فيهم كفراً وبغياً, فقال تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى, الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني عبد الله بن لهيعة, حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى}, يعني إذا كان عمداً الحر بالحر, وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل, فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء, فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا, فكان أحد الحيين يتطاول على الاَخر في العدة والأموال, فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل العبد منا الحر منهم, والمرأة منا الرجل منهم, فنزل فيهم {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} منها منسوخة نسختها النفس بالنفس, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {والأنثى بالأنثى} وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة, ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة, فأنزل الله: النفس بالنفس والعين بالعين, فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس, وجعل العبيد مستويين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم, وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله النفس بالنفس.
(مسألة) ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة, وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود, وهو مروي عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم, قال البخاري وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي و الثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده, لعموم حديث الحسن عن سمرة «ومن قتل عبده قتلناه, ومن جدع عبده جدعناه, ومن خصاه خصيناه» وخالفهم الجمهور فقالوا: لا يقتل الحر بالعبد, لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية,وإنما تجب فيه قيمته ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى, وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر, لما ثبت في البخاري عن علي, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولا يقتل مسلم بكافر} ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا, وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.
(مسألة) قال الحسن وعطاء: لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الاَية, وخالفم الجمهور لاَية المائدة ولقوله عليه السلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» وقال الليث: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.
(مسألة) ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد, قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم, وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة, وذلك كالإجماع, وحكي عن الإمام أحمد رواية: أن الجماعة لا يقتلون بالواحد, ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة, وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير وعبد الملك بن مروان والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت, ثم قال ابن المنذر: وهذا أصح, ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة, وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه, وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر, وقوله: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} فالعفو أن يقبل الدية في العمد, وكذا روي عن أبي العالية وأبي الشعثاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة مقاتل بن حيان وقال الضحاك عن ابن عباس: {فمن عفي له من أخيه شيء} يعني: فمن ترك له من أخيه شيء يعني أخذ الدية بعد استحقاق الدم, وذلك العفو, {فاتباع بالمعروف} يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية, {وأداء إليه بإحسان} يعني من القاتل من غير ضرر ولا معك يعني المدافعة, وروى الحاكم من حديث سفيان عن عمرو, عن مجاهد, عن ابن عباس: ويؤدي المطلوب بإحسان وكذا قال سعيد بن جبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان.
(مسألة) قال مالك رحمه الله في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور, وأبو حنيفة وأصحابه, والشافعي وأحمد في أحد قوليه: ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل: وقال الباقون: له أن يعفو عليها وإن لم يرض.
(مسألة) وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو, منهم الحسن وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث والأوزاعي, وخالفهم الباقون, وقوله: {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} يقول تعالى: إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفاً من الله عليكم ورحمة بكم مما كان محتوماً على الأمم قبلكم من القتل أو العفو, كما قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار, أخبرني مجاهد عن ابن عباس قال: كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى, ولم يكن فيهم العفو, فقال الله لهذه الأمة {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى, فمن عفى له من أخيه شيء} فالعفو أن يقبل الدية في العمد وقد رواه غير واحد عن عمرو, وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار, ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس بنحوه, وقال قتادة {ذلك تخفيف من ربكم} رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ولم تحل لأحد قبلهمم فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش وكان أهل الانجيل إنما هو عفو أمروا به وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش, وهكذا روي عن سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس نحو هذا. وقوله {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} يقول تعالى: فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها, فله عذاب من الله أليم موجع شديد, وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية, كما قال محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل, عن سفيان بن أبي العوجاء, عن أبي شريح الخزاعي, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص, وإما أن يعفو, وإما أن يأخذ الدية, فإن أراد الرابعة, فخذوا على يديه, ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالداً فيها» رواه أحمد, وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية» يعني لا أقبل منه الدية, بل أقتله.
وقوله {ولكم في القصاص حياة} يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم, وهو قتل القاتل حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها, لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه, فكان في ذلك حياة للنفوس, وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل فجاءت هذه العبارة في القرآن افصح وأبلغ وأوجز {ولكم في القصاص حياة} قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة, فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل. وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان {يا أولي الألباب لعلكم تتقون} يقول: يا أولي العقول والأفهام والنهي, لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه, والتقوى اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.

** كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتّقِينَ * فَمَن بَدّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنّمَا إِثْمُهُ عَلَى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِن مّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ
اشتملت هذه الاَية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين, وقد كان ذلك واجباً على أصح القولين قبل نزول آية المواريث, فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه, وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله يأخذها أهلوها حتماً من غير وصية ولا تحمل منة الموصي, ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه, فلا وصية لوارث» وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية عن يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين, قال: جلس ابن عباس فقرأ سورة البقرة حتى أتى هذه الاَية {إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين} فقال: نسخت هذه الاَية وكذا رواه سعيد بن منصور, عن هشيم, عن يونس به, ورواه الحاكم في مستدركه, وقال: صحيح على شرطهما, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {الوصية للوالدين والأقربين} قال: كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين, فأنزل الله آية الميراث, فبين ميراث الوالدين وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا حجاج بن محمد, أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء, عن ابن عباس, في قوله {الوصية للوالدين والأقربين}: نسختها هذه الاَية {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروض} ثم قال ابن أبي حاتم, وروي عن ابن عمر وأبي موسى وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وعكرمة وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وطاوس وإبراهيم النخعي وشريح والضحاك والزهري: أن هذا الاَية منسوخة, نسختها آية الميراث والعجب من أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي رحمه الله, كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الاَية غير منسوخة وإنما هي مفسرة بآية المواريث, ومعناه كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين من قوله {يوصيكم الله في أولادكم} قال: وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء: قال: ومنهم من قال: إنها منسوخة فيمن يرث ثابتة فيمن لا يرث, وهو مذهب ابن عباس والحسن ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد. (قلت) وبه قال أيضاً سعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان, ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخاً في اصطلاحنا المتأخر, لأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم أية الوصاية, لأن الأقربين أعم ممن يرث ولا يرث, فرفع حكم من يرث بما عين له, وبقي الاَخر على ما دلت عليه الاَية الأولى, وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم: إن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندباً حتى نسخت, فأما من يقول: إنها كانت واجبة وهو الظاهر من سياق الاَية, فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء, فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالإجماع, بل منهي عنه للحديث المتقدم «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» فآية الميراث حكم مستقل ووجوب من عند الله لأهل الفروض والعصبات, يرفع بها حكم هذه بالكلية, بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم يستحب له أن يوصي لهم من الثلث استئناساً بآية الوصية وشمولها, ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما حق امرىء مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» قال ابن عمر : ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي والاَيات والأحاديث بالأمر ببرّ الأقارب والإحسان إليهم كثيرة جداً, وقال عبد بن حميد في مسنده: أخبرنا عبد الله عن مبارك بن حسان, عن نافع قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: يا بن آدم ثنتان لم يكن لك واحدة منهما: جعلت لك نصيباً في مالك حين أخذت بكظمك لاَطهرك به وأزكيك, وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك» وقوله {إن ترك خير} أي مالاً, قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبو العالية وعطية العوفي والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم, ثم منهم من قال: الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر كالوراثة ومنهم من قال: إنما يوصي إذا ترك مالاً جليلاً, ثم اختلفوا في مقداره, فقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري, أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه, قال: قيل لعلي رضي الله عنه: إن رجلاً من قريش قد مات وترك ثلثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص ؟ قال: ليس بشيء إنما قال الله {إن ترك خير} وقال أيضاً: وحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني, حدثنا عبده يعني ابن سليمان, عن هشام بن عروة عن أبيه: إن علياً دخل على رجل من قومه يعوده, فقال له: أوصِ ؟ فقال له علي: إنما قال الله {إن ترك خيراً الوصية} إنما ترك شيئاً يسيراً فاتركهلوالدك, وقال الحاكم: إن أبان حدثني عن عكرمة عن ابن عباس {إن ترك خير} قال ابن عباس: من لم يترك ستين ديناراً لم يترك خيراً, قال الحاكم: قال طاوس: لم يترك خيراً من لم يترك ثمانين ديناراً, وقال قتادة: كان يقال: ألفاً فما فوقها. وقوله {بالمعروف} أي بالرفق والإحسان, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد, حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار, حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قوله {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت} فقال: نعم الوصية حق على كل مسلم أن يوصي إذا حضر الموت بالمعروف غير المنكر, والمراد بالمعروف أن يوصي لأقربيه وصية لا تجحف بورثته من غير إسراف ولا تقتير, كما ثبت في الصحيحين أن سعداً قال: يا رسول الله, إن لي مالاً ولا يرثني إلا ابنة لي, أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال: «لا» قال: فبالشطر ؟ قال «لا» قال: فالثلث ؟ قال «الثلث والثلث كثير, إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يكففون الناس», وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الثلث والثلث كثير»وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عتبة بن حنظلة سمعت حنظلة بن جذيم بن حنيفة: أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل, فشق ذلك على بنيه فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حنيفة: إني أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل كنا نسميها المطية, فقال: النبي صلى الله عليه وسلم «لا لا لا, الصدقة خمس وإلا فعشر وإلا فخمس عشرة وإلا فعشرون وإلا فخمس وعشرين وإلا فثلاثون وإلا فخمس وثلاثون فإن كثرت فأربعون» وذكر الحديث بطوله.
وقوله {فمن بدله بعد ما سمعته فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم} يقول تعالى: فمن بدّل الوصية وحرفها, فغير حكمها وزاد فيها أو نقص, ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى {فإنما إثمه على الذين يبدلونه} قال ابن عباس وغير واحد: وقد وقع أجر الميت على الله, وتعلق الإثم بالذين بدلوا ذلك {إن الله سميع عليم} أي قد اطلع على ما أوصى به الميت وهو عليم بذلك وبما بدّله الموصى إليهم, وقوله تعالى: {فمن خاف من موص جنفاً أو إثم} قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي: الجنف الخطأ, وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها بأن زادوا وارثاً بواسطة أو وسيلة, كما إذا أوصى ببيعة الشيء الفلاني محاباة أو أوصى لابن ابنته ليزيدها أو نحو ذلك من الوسائل, إما مخطئاً غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر, أو متعمداً آثماً في ذلك, فللوصي والحالة هذه, أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي, ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعاً بين مقصود الموصي والطريق الشرعي, وهذا الإصلاح والتوفيق, ليس من التبديل في شيء, ولهذا عطف هذا فبينه على النهي عن ذلك, ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل, والله أعلم, وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد قراءة, أخبرني أبي عن الأوزاعي, قال الزهري: حدثني عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «يرد من صدقة الجانف في حياته ما يرد من وصية المجنف عند موته» وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه من حديث العباس بن الوليد به, قال ابن أبي حاتم: وقد أخطأ فيه الوليد بن مزيد, وهذا الكلام إنما هو عن عروة فقط, وقد رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي فلم يجاوز به عروة, وقال ابن مردويه أيضاً: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا إبراهيم بن يوسف, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجنف في الوصية من الكبائر» وهذا في رفعه أيضاً نظر, وأحسن ما ورد في هذا الباب ما قال عبد الرزاق: حدثنا معمر أشعث بن عبد الله, عن شهر بن حوشب, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة, فإذا أوصى حاف في وصيته, فيختم له بشر عمله فيدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل الشر سبعين سنة, فيعدل في وصيته, فيختم له بخير عمله, فيدخل الجنة» قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {تلك حدود الله فلا تعتدوه} الاَية.